ثلاث وأربعون سنة تمر، ومحطة تضاف إلى محطات الجزائر التخليدية، التي تتذكر من خلالها من رحلوا جسدا وبقوا روحا وعطاء في الرابع والعشرين من عام 1978، انطفأت شمعة من الشموع التي أنارت درب الجزائريين لسنوات طوال، وصنعت فرحتهم، وسقط عمود من الأعمدة الركيزة للساحة الغنائية الجزائرية التي لا يمكن استخلافها. رحل الكاردينال مربي الحمام، تاركا وراءه ما يربو عن 360 قصيدة و130 أسطوانة، وتلامذة حملوا المشعل من بعده، وحافظوا على مدرسته وأسلوب.
من أزفون الساحلية التي خرج من عمق جبالها ومداشرها فنانون كبار، صنعوا مجد الفن الجزائري بمختلف روافده، من وزن محمد ايقربوشن، محمد إيسياخم، الحاج منوّر وآخرين، وبالضبط من آث جناد، نزحت عائلة بسيطة بساطة أريافنا نحو قصبة الجزائر، لتمنح الحياة لصوت متميز لا يزال يحظى باهتمام وإعجاب كبيرين. هو الحاج امحمد العنقا، آيت وعراب محمد إيدير حالو من اسمه الحقيقي، الذي رأى النور في 20 ماي 1907 بشارع تمبوكتو بالقصبة العتيقة، التي برز من رحمها أسماء لامعة في مختلف الفنون، والشعبي على وجه الخصوص.
مر ابن محمد بن حاج سعيد وفاطمة بنت بوجمعة، الذي لاقى الرعاية والحنان، بثلاث مدارس، قبل أن ينتقل إلى الحياة العملية وعمره لم يتجاوز أحد عشرة عاما، فكانت البداية بالمدرسة القرآنية من 1912 إلى 1914، ثم إبراهيم فاتح من 1914 إلى 1917، لينتقل فيما بعد إلى مدرسة بأعالي بوزريعة، ويتمدرس بها لمدة عام واحد.
وبتوصية من سي السعيد العربي العازف المعروف ضمن فرقة مصطفى الناضور، تحصل امحمد على امتياز يسمح له بحضور الحفلات التي كانت الفرقة تحييها، وفي إحدى السهرات الرمضانية من عام 1917، لاحظ الناضور الولع الكبير للشاب، وحسه الفطري للإيقاع، إضافة إلى ذاكرته القوية، فسمح لأنامله بأن تداعب آلة الطار، وأن يتزود بقواعد وأسس الأغنية ويطور مؤهلاته الفنية، ليواصل مساره الفني كموسيقي ضمن فرقة قهيوجي، الأخ غير الشقيق للحاج مريزق.
وبهد هذا الاحتضان القوي والانتشار الكبير وسط العاصميين، سجل العنقا 27 أسطوانة من نوع 78 لفة في استوديوهات كولومبيا، وشارك في تدشين النواة الأولى لإذاعة الجزائر، الشيء الذي زاده انتشارا وصيتا في مختلف أنحاء الوطن وخارجه.
الكاردينال الذي يعد نقطة انعطاف هامة في مسار الموسيقى الجزائرية، علاوة على أنه مؤسس فن الشعبي بمفهومه واضح المعالم المستقل عن الفن الأندلسي الكلاسيكي، تميز بحفظه للقصائد إلى درجة الانصهار التام في اتحاد كلي وتناغم نادر وفريد، والتي صنعت عبقرية المبدع المتجلية في “لحمام لي ربيتو” و”سبحان الله يا لطيف”.
صاحب “الحمد لله ما بقاش استعمار في بلادنا”، الذي تربع على عرش أغنية الشعبي دون منازع، وتفرغ للبحث والدراسة المعمقة في خصوصيات أغنية الشعبي، أضفى عليها روحا إبداعية وأدخل تجديدات على الأغنية، وأثرى الموروث الشعبي لبن مسايب وبن سهلة بلمسات من الجاز.
خمسون سنة من العطاء الفني والإبداع الشعبي، انطفأت كما فعلت شموع قبلها وستفعل أخرى، أضاءت ولا تزال تضيء الدروب الغنائية الجزائرية، فكانت نهاية مسيرة حافلة بالأعمال المتميّزة الراسخة في القلوب والأذهان على مر العصور وباختلاف الأجيال.